ذكريات فلكلورية 2 – بتصرف[1]

عبد العزيز ابن عبد الجليل

في طفولتي، وخلال الأمسيات الشتوية، كنت أجلس بجانب الموقد وقد شبت فيه أعشاب الجولق، فأنصت إلى آخر شعراء نهايات القرن وهم يستظهرون عن ظهر قلب فصولا لا نهاية لها من مسرحيات يتحدى طولها الزمان. كان هؤلاء يفضلون بصفة خاصة مسرحية "حياة أبناء أَيْمون الأربعة"[2] la Vie des quatres fils Aymon. ولم تكن ليلة واحدة كافية لإيقاف سيل الأشعار التي تفعم آذان الحاضرين وتسحرهم بنشيدها المزمور على هذا النحو:

002a.jpg

إنها نبرة تغطي الأبيات دون توقف ولا مبالاة بعوارض الترقيم، تتخطى الوقف، والاستفهام، والتعجب، وتتحدى المعنى، غير أنها تظل خاضعة بالكامل لتدفق الموسيقى. أما الموسيقيون الذين انبهروا بقوافي الأبيات الشعرية، فهم يرتاحون لهذا لإنشاد المرتل ويرفضون كل محاولة لاستبدال هذا النمط من السرد القصصي بأي أسلوب آخر.

ولعل هذه الطريقة هي ذاتها التي توسلت بها أشعار هوميروس لتغزو نفوس المستمعين، يوم كانت الموسيقى وثيقة الارتباط بالشعر، وكانا معا يحتفظان بقوة التعاويذ السحرية.  

أما الإسكندريون (نسبة إلى الإسكندر الكبير)، بما وهبوا من رجاحة عقل ومضاء الروح النقدية فما كانوا ليقبلوا إلا نادرا هذه العلاقة بين المنطوق والمغنى، إذ أن "الفكرة" بالنسبة إليهم هي أهم من الموسيقى.

ما زلت أتذكر "الطابع" اللحني لمقطوعة بروتوني السابقة، وكيف أني استلهمت لحنها في "مغناتي" (أوكاسان ونيكوليت) [3] Aucassin et Nicolette عند الإعلان عن نهاية المسرحية، فقد اقتبست نفس اللحن مع تعديلات طفيفة لا تغير من طبيعته، وهذه صورته:

002b.jpg

وأذكر أيضا أني حفظت أغنية أخرى شبيهة بالسابقة من حيث طابعها السردي، وهي أغنية عجيبة كان أحد المتسولين يرجع بطريقة مذهلة مقاطعها ذات الصلة بإحدى الحكايات المحلية.  وفي تجاهل تام لصرامة البنية المقامية الكلاسيكية، يقوم لحن هذه الأغنية على ميزان خماسي الضربات 5/4 بما يتناسب وجرس الكلمات.

002c.jpg

لقد كان وضع الأغاني من طرف شعراء محليين من الأشياء المعتادة في منتصف القرن السابق. وفي هذا الصدد علمت أن أحد أعمامي كان من بين من شارك في حرب سنة 1870[4]، ولأنه استشهد في هذه المعركة فقد أشادت ببطولته إحدى تلك الأغاني، فكانت نموذجا لما أنجزه أحد ممثلي الفن الريفي المتأخرين.

من جهة أخرى أجدني ممتنا ببعض ذكرياتي الفلكلورية للروس مشاهير حاملي الأغاني الشعبية، ذلك أني في مستهل القرن كنت مقيما بمنزل ريفي على بعد حوالي ثلاثين كلم شمال موسكو، غير بعيد عن طريق "لار وسلاف" المؤدية إلى دير شهير يقصده الكثير من الحجاج.

وفي الطريق إلى الدير كان السعاة المتسولون يستجدون المارة وهم يغنون ألحانا تفيض حنانا وشوقا. وكان المارة يصغون إليهم باهتمام كبير مقابل نقود قليلة يدفعونها إليهم.

من ذكرياتي أبضا في روسيا مشهد تجمع الجنود الروس بمعسكر "لاكورتين"[5]، وهم يرقصون ويغنون في ساعات تمتد حتى الهزيع الأخير من الليل، على وقع آلة "البالالايكا" balalaïka التي لا يتسرب إليها الكلل، والتي توقع الخطو بشدة على إيقاع ميلوديا عنيدة ممزوجة بالصيحات، وتصفيق الأيدي، وضرب الأقدام، لا ينقطع نفس اللحن عن مصاحبتها حاملا معه أجواء النفس المنعش.

002d.jpg

وتستمر جاذبية اللحن الشعبي حاضرة في ذروة حضارتنا الزاهية، فقد أخبرني راهب مؤخرا من جهة بروطوني غربي فرنسا أنه تهيأ له أن يقف على عدد كبير من الأغاني المحلية أثناء وجوده في أحد المصايف.  وهي أغان استطاعت أن تغالب إغراءات المدن، وأن تظل مليئة بالحيوية والجمال والقوة.

وما من شك في أن هناك صراعا يميل إلى رمي نفحات الروح الشعبية في ترسانة المخلفات القديمة، بيد أن هناك ملاحظة لافتة تفرض نفسها، وهي أن هذه الأغاني الموروثة من الماضي تدافع عن نفسها غالبا ضد النسيان بكثير من الصلابة تفوق تلك التي تملكها الأغاني "الحَظِيَّة بالشهرة" والتي قلما يتجاوز عمرها مواسم عابرة. 

وأمام الإيقاع الجامح للحياة الحالية، وعلى الرغم مما يبديه من حماسة أولئك الذين يدافعون عن مخلفات العصر الماضي من أجل البقاء، فإن هذه المخلفات تتلاشى شيئا فشيئا وتمحى من الذاكرة، تاركة المجال لـ"فلكلور" أخر تحمل إليه الحياة اليومية صوتا جديدا وغنى طريفا. 


 

[1] Le Flem, Paul. Juillet 1961. MUSICA n° 88. Imp. CHAIX (seine), p 42

[2] ملحمة الفرسان الأربعة أبناء الدوق آيمون. كانوا في البدء من حشم الملك شارلمان، ثم حدث ما أثار غضب الملك عليهم ففروا واختفوا في غابة آردينيا حيث بنوا قلعة سرعان ما استولى عليها الملك ليعودوا إلى قلعة والدهم الدوق قبل أن ينخرطوا في دوامة من المغامرات قادتهم إلى جنوب كل من فرنسا وألمانيا. وعلى مرتفعات "بونيي سور ميز" Bogny-sur-Meuse مشهد لفرسان آردينيا على متن حصان راكض، أقيم تخليدا لذكرى ملحمة ألهمت أغنية "الأبطال الأربعة" التي بلغت درجة كبرى من الشهرة في العصر الوسيط.

[3] أوبرا من تأليف بول لو فليم خلال سنتي 1908 و1909 على كلمات مجهولة المؤلف تعود إلى العصر الوسيط.

[4] الحرب الفرنسية الألمانية، أو الحرب الفرنسية البروسية (من تموز/يوليو 1870 إلى 10 أيّار/مايو 1871). توصف أحيانا بالحرب السبعينية، وكانت صراعا مسلحا نشب بين الإمبراطورية الفرنسية الثانية بقيادة نابوليون الثالث والولايات الألمانية بقيادة مملكة بروسيا.

[5] الإشارة هنا إلى معسكر "لاكورتين" la Courtine الواقع في جهة أقطانيا جنوب غربي فرنسا حيث كان الجنود الروس يقيمون في إطار التحالف العسكري بين فرنسا وروسيا لمواجهة الغزو الألماني.

Rate this item
(2 votes)
Last modified on الأربعاء, 01 آذار/مارس 2023 09:34
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل للإيقاعات الموسيقية تأثير نفسي وبيولوجي وجسدي علينا؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM