زكي ناصيف كبير من بلادي ... العبقري الموسيقي المرهف

إسماعيل فقيه

أخبرني الغائب الأكبر الموسيقار زكي ناصيف في إحدى لقاءاتي معه - وكانت لقاءاتي به كثيرة ومتعددة، وكان يعشق الجلوس في المقهى، وسط شارع الحمراء بالعاصمة بيروت – أخبرني عن علاقته بالموسيقى وكيف امتلكها وتعامل معها وكيف "أمدّته بالطاقة والحياة".

"الدلعونا" نغم فلكلوري تراثي تأثر به الراحل، فأنتجه مجدداً وفق أصول جديدة ابتكرها، وله نظرة ونظرية خاصة بها تستند الى وعي معرفي وإحساس فني مرهف جداً، يقول ناصيف: "الدلعونا هي مساحة وعي وتحد وحياة".  وشرح لي قائلاً: عندما يخبط رجال "الدبكة" (الرقصة الفلكلورية) أرجلهم في الأرض بثقة كبيرة مترافقة مع موسيقى هدّارة ونغم عنفوان، إنما يفعلون ذلك بوحي من الحس الموسيقي الدفين في قاع النغم.  ولا يتوقف الأمر - أمر الإحساس - عند هذا الوعي والتلقي والأداء، بل في هذا النشاط الإبداعي وهج محرض، يفتح العنان للعقل، ويجهز النغم وفق أصول الصورة المرجوة في داخل المعنى الباطني للصوت المُنغم.  وكلمة دلعونا، تعني العونة.  والعونة بدلالات واسعة وكثيرة، ومفتوحة على الوعي التراثي والمعرفي (…) كانوا في الماضي حين يبحثون عن المياه في قاع الأرض، كانت العونة بوصلتهم، حيث كانوا يجتمعون ويتشابكون بأياديهم ويخبطون الأرض بخطوات هدارة فترتج الأرض تحتهم، وكأنهم يهزون خزان المياه ليتأكدوا منها ومن مستواها الراسخ والدارج والجاري والمستقر في باطن الأرض.  وفي ذلك فعل تحد كبير، وإقامة رقيبة داخل الصوت والمغنى.

a01a.jpg

أما المرأة بالنسبة للراحل فهي تمثّل الصورة الناصعة للجمال؛ ”إنها مركز الثقل في الجمال ووهجه العام الذي تتكون منه الحياة.  والموسيقى هي بالأصل نغم حنون يخرج الى السمع رقيقا كلما تطابق مع طيف الجمال والأنوثة (…).  كم من ألحان ابتكرتها تحت تأثير هذا الجمال وهذه الرقة الصافية (…) عندما تظهر المرأة بجمال قامتها وروحها ورزانة وعيها، فتكون قصيدة نغمية مفعلة بإيقاعات الحياة الجميلة والمتنوعة”.

المدينة بالنسبة لناصيف كانت “المرآة الأنصع” التي يرى فيها الحياة ونموها وازدهارها. فكان لا يبارح مدينة بيروت خلال الربع الأخير من حياته: كل يوم الى المقهى، وسط المدينة، الى طاولة مشرفة على الشارع الطوي، حيث ضجيج المدينة ورائحة الأيام تعلو مثل دخان سيجارة حالمة.  يجلس كمن يراقب الحياة بكل تفاصيلها.  يدندن وينغم بصوته الطفولي، ويدندن بأصابعه على الطاولة، وكل عابر يراه، يقف متفرجاً على المُلحن الذي يبتكر اللحن في لحظة خاطفة.

توفي زكي ناصيف في بيروت في 10 آذار/مارس 2004 على إثر نوبة قلبية عن عمر يناهز 88 عاما.

زكي ناصيف يجسد حالة فنية موسيقية إبداعية خاصة جداً، احترافية إلى أبعد قدرة ابتكارية.  فنان موسيقار مبتكر ومجدد.  العبقري المرهف الذي لعب دورًا بارزًا في انتقال المغنى إلى مساحة وعي هامة مثيرة ولافتة، على مستوى الذائقة المحلية والعربية.  لقد أغنى تلك الذائقة بمساحات سمعية واسعة، فهو المغني والملحن والمؤلف المميّز، وكان من أوائل المجددين، اذ يعتبر واحدًا من الرعيل الأول من الملحنين الذين واكبوا نهوض اذاعة لبنان في أربعينيات القرن الفائت، وما زالت أعماله مؤثرة في الموسيقى الشعبية اللبنانية حتى يومنا الحاضر، وبالتأكيد ستبقى موسيقاه وما أحدثته وأرسته في الزمن والذاكرة حاجة ثقافية وتعليمية في المستقبل، في متناول الأجيال القادمة. 

لا يمكن نسيان ما قدمه زكي ناصيف طيلة حياته، فقد قدّم أكثر من 500 أغنية، واللافت في هذه الأغاني أنه لحنها وغنّاها بصوته أو بأصوات عدد كبير من المطربين الكبار.      

ولادة الفنان زكي ناصيف كانت في بلدة مشغرة، أكبر مدينة في وادي البقاع الغربي في عام 1916.  ومن صغره، شارك في صوغ الشعر والموسيقى الشعبية (مثل الزجل، المعنّى، العتابا، الميجانا، أبو الزلف…).

بدت عليه نعمة الفن باكرا، وكان أمينا ومخلصا معها، فأتقنها منذ أن تلقفها.

انطلق ناصيف بسرعة وحلق في فضاء الموسيقى بجناحي طير لا يلجمه فضاء ولا تحده مسافة.

ألف ما سمّي آنذاك "عصبة الخمسة" مع: الأخوين رحباني، حليم الرومي، توفيق الباشا، فيلمون وهبي، وكان هدفهم الأهم هو الخروج على الغناء الشائع إلى مساحات فنية موسيقية جديدة، وكذلك المثابرة في محاولة اكتشاف لون من الغناء المحلي الذي يستمد من الفولكلور جمله اللحنية، ذلك أن الفلكلور يمتلك اعتبارات وخامات فنية قابلة للصقل والتطوير.  ساهم هؤلاء الكبار بإمداد اذاعة الشرق واذاعة لبنان بالمواد الموسيقية والغنائية في خمسينيات القرن العشرين.  وفي العام 1957 دشنت العصبة انطلاق “الليالي اللبنانية” الأولى في “مهرجانات بعلبك الدولية”، بعمل فولكلوري عنوانه “عرس في القرية”.  وفي تلك الليالي البعلبكية الأولى انطلقت الأغنية الشهيرة التي لحنتها وغناها الكورس: "طلّوا حبابنا طلّوا/ نسِّم يا هوا بلادي"، وكذلك أغنية "يا لا لا لا عيني يا لا لا لا"، اللتان غنّاهما لاحقاً الفنان الكبير الراحل وديع الصافي.

الدراسة التي حصلها زكي ناصيف كانت دراسة الموسيقى في الجامعة الأميركية في بيروت، وكذلك انضم إلى فريق إذاعة الشرق في فترة الانتداب الفرنسي، وساهم في إطلاق مهرجانات بعلبك الدولية.

أما في حياته المديدة فقد ألّف موسيقى أغنيات للسيدة فيروز وللراحلة الكبيرة صباح ووديع الصافي وماجدة الرومي وغيرهم، كما أدى شخصياً عدداً من ألحانه، ودرّس في الكونسيرفاتوار الوطني اللبناني.  وما زالت أغانيه تعرض على اذاعات ومحطات مصحوبة بمشاهد من قرى وطبيعة لبنان (مثل "بلدي حبيبي"، "يا ضيعتي" ...).   

لا ينتمي ناصيف إلى مدرسة الرحابنة الموسيقية، ولا الى تلك الموسيقى التي مزجت الموسيقى الغربية والكلاسيكية بالطابع الشعبي اللبنانية والنمط التقليدي القديم.  فقد كانت موسيقاه نابعة من خصوصية ذاتية تفاعلية، بدلا من كل ذلك المسار الموسيقى الذي كان سائدا، إذ أبقى على المواد القديمة ولكن بروح جديدة متزاوجة مع تقاليد الضيعة اللبنانية.  وهذا التزواج (الناصيفي) رفع من حضور خصوصيته الى حد التفرد.

إن أهم ما يشد اللبنانيين إلى مؤلفاته أغنية “راجع راجع يتعمر لبنان” والتي غناها خلال الحرب الأهلية والتي اعتبرت بمثابة النشيد الذي يدل على صمود البلد في وجه الدمار والخراب.  وذلك ما أثار الاستغراب في حينها لدى العديد من القامات والنقاد والأشخاص الذين يعتقدون أن زكي ناصيف لا يمكن أن ينتج مواد جديدة لكبر سنه. بل أثبت العكس، وأن عمره مثل الذهب لا تنتهي صلاحيته مهما عاش وتوغل في الزمن. ففي عام 1994 أصدر ألبومه الهام والمميز، ألبوم كامل للسيدة فيروز بعنوان “فيروز تغني زكي ناصيف”، من إنتاج صوت المشرق.  يحتوي القرص المدمج على مواد ممتازة تعرض قدرات زكي ناصيف على الإنتاج والتمايز والتعبير. ولزكي ناصيف غنى العديد من المطربين الجدد الذين رعاهم وقدم لهم المواد الغنائية التي تناسب قدراتهم الصوتية.   

ثقافة الفنان زكي ناصيف، إلى جانب موهبته الموسيقية الفريدة، ودراسته الموسيقية، شكلت حضوراً لافتا لشخصية موسيقية رائدة، أغنت الموسيقى اللبنانية والعربية ورفعت من شأنها عاليا.  وفي أحاديثه الكثيرة، كان يتحدث كثيرا عن الفلكلور اللبناني وما يمكن أن يزاد على خامته من موسيقى جديدة متجددة، مستمدة بالأصل من هذا التراث.  ويقول: "التراث الموسيقي الفلكلوري يحمل في داخله بذور تطوره، وما علينا سوى أن نقرأ جيداً في هذا الأصل والتجاوب مع إيقاعاته حتى نحصل على جواب موسيقي ابداعي جديد، مناسب لزمن يأتي لاحقا…"

المصدر: جنوبية

Rate this item
(1 Vote)
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل تعكس الموسيقى العربية المعاصرة تطلعات الشباب وقيمهم؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM