هكتور برليوز – السمفونية الخيالية - 2 - (بتصرف) (*)

عبد العزيز ابن عبد الجليل

شهدت سنة 1830 بفرنسا أحداثا سياسية كبرى كانت لها انعكاسات بينة على مستوى الحركة الفنية، تجلت مظاهرها الأولى في الضجة الكبرى التي أحدثها العرض الأول لمسرحية "هيرناني" Hernani على خشبة المسرح الفرنسي بباريس يوم 25 يبراير 1830، ( ) هذا العرض الذي جسد المعارضة على أشدها بين "الاتباعيين" المحافظين أنصار أعراف المسرح التقليدي، وبين دعاة الرومانسية التي كان هوجَو في مقدمة متزعميها.


لقد عاش المسرح الفرنسي مواجهة بين الطرفين عرفت باسم "معركة هيرناني" ترمز لتجدد المسرح الفرنسي، وتعلن بشكل خفيٍّ عن قيام معارضة سياسية وشيكة.


في هذه السنة ذاتها ألف برليوز "السمفونية الخيالية" التي أراد لها – على غرار "هيرناني" أن تكون عتبة ولوج الموسيقى السمفونية الفرنسية إلى مجال الرومانسية الموسيقية.


وتكمن طرافة هذا العمل – علاوة على أصالة توزيعه الموسيقي – في طبيعته السيريذاتية: ذلك أن عشق برليوز العاصف والاستيهامي للممثلة الايرلاندية الشابة "هارييت سميثسون" Harriiett Smithson شكل البرنامج الذي كشف عنه للصحافة ووزعه على الجمهور قبل انطلاق العرض الأول بفترة قصيرة؛ وهذه - بحق – حالة فريدة في تاريخ الموسيقى.


لقد انطلقت فكرة السمفونية الخيالية منذ النظرة الأولى لهارييت سميثسون عام 1827 وهي تؤدي دور "أوفيلييا" Ophélie في مسرحية شكسبير. ومن ثم جاءت مدونتها لتشكل إعلانا عن حبه لامرأة لم يلتق بها بعد، وشهادة نرجسية واستعراضية يعرض المؤلف فيها نفسه بشكل خاص.


تفتح هذه السمفونية الطريق أمام "الموسيقى المبرمجة" (musique à programme)، على نحو ما ستصبح عليه "القصائد السمفونية" لفرانز ليستز، ذلك أنه بعيدا عن طبيعتها الذاتية، فإن برليوز يستمد إلهامه من مسرحية "فاوست" Faust لـ "غوته Ghothe ( ) التي اكتشفت حديثا في ترجمة "جيرارد دو نيرفَال" Gérard de Nerval (1808 – 1855) ( ) وكذا في "اعترافات" أحد أكلة الأفيون الإنجليزي لـ "توماس دو كوينساي Thomas de Quincey (1785-(1859) ( ) التي نقلها من الأنجليزية إلى الفرنسيىة هانري بورجان Henry Borjane سنة 1821.


من الناحية الموسيقية تعتبر السمفونية الخيالية ابتكارا جديدا بفضل كثافة توزيعها الأوركسترالي الذي يحتاج إلى ما لا يقل عن عشر آلات من الكمان الأول، ومثلها من الكمان الثاني، وأخرى من الآلتو، إضافة إلى 11 فَيولونتشيللو، وتسع كونترباص، وبذلك أحدث برليوز ثورة في نسب الأوركسترا، وفي المعايير الأصلية للآلات.


وكما تحقق التجديد على مستوى الأوركسترا، فقد تحقق أيضا على صعيد القالب البنيوي للسمفونية، وذلك عن طريق استخدام ما أسماه "الفكرة الثايثة، وهي تيمة لحنية رئيسية thème conducteur يستحضر من خلالها المرأة التي أحبها، ويعرضها في كل حركة من حركات السمفونية الخمس، مع شيء من التعديل بما يوافق تطور الحالة النفسية لبطل المسرحية.


استخدم المؤلف موسيقاه لغاية واحدة هي التعبير عن مشاعره الجياشة متجاهلا مختلف أعراف الكتابة الموسيقية المألوفة يومئذ، وهكذا، فمن خلال حركات السمفونية الخمس، ومن خلال توزيعها الموسيقي الملون وأسلوبها الغنائي المعبر اتخذت سمفونيته مظهر الأوبرا.


تقوم السمفونية على الحركات الخمس التالية"
• أحلام اليقظة - العواطف: تحفل هذه الحركة بنسيج من الألحان الصاخبة التي سرعان ما تهدأ عندما يستحضر المؤلف صورة حبيبته من خلال لحن "الفكرة الثابثة"، هذا اللحن الذي ينطلق في البدء هادئا عبر همسات الكمان، ثم لا يفتأ أن يرتفع ويحتد فتتحول آلات الفرقة إلى ما يشبه قاذفات للحمم تحكي استسلام العاشق لآلامه.
• حفل راقص: تتهادى الألحان في هذه الحركة نشوى تنشر أجواء الغبطة في حفل راقص ممتع. وفجأة تعود "الفكرة الثابثة" على غير موعد، فتعكر أجواء الطرب، ثم تغيب لحظة، ثم يتجدد ظهورها ثانية في آخر الحركة.
• مشهد في الحقول: في هذه الحركة تتوالى الألحان هادئة كهدوء الطبيعة، منسابة عبر آلات الفلوت والبيكولو، بسيطة كبساطة ألحان الرعاة في المروج، وقد رحل إليها برليوز فرارا من شبح "المحبوبة" وكابوسها المؤرق. وما أن تمضي لحظات يستشعر فيها متعة السعادة حتى تتبدى من جديد "الفكرة الثابثة" فتتبدد خيوطُ الفرحة إلى حين، ثم تعود الموسيقى إلى هدوء يوحي بمشاعر العزلة والوحدة الوحشية ويشعر بانتهاء الحركة.
• مسيرة نحو المقصلة: تعود هذه الحركة بالمؤلف إلى اللحظات التي تناول فيها كمية من الأفيون، فيتخيل نفسه – وهو في غيبوبته – بأنه قتل محبوبته، وأن الجلاد يسير به في اتجاه المقصلة. وفي دوامة الألحان التي ترسم هذا الحلم المزعج، تتدافع الذكريات، وتعود صورة "هنرييتا سميثسون" عن طريق "الفكرة الثابثة"، فترجع الآلات لحن "نشيد الموت" الرهيب معلنة عن لحظة الحكم القاضي بإعدام العاشق الجاني.
• حلم محفل ليلة السبت: في هذه الحركة تتبدى بوضوح قوة تأثر المؤلف برائعة الشاعر الألماني جَوته "فاوست" وهو في قبضة الشياطين التي تقوده إلى جبل السحرة في ليلة عيدهم. فهو يحملنا على أجنحة تخيلاته إلى بيت السحرة والأشباح وقد عقدوا جمعهم ليشيعوا جنازته بعدما أطاحت المقصلة برأسه، فتنتطلق الألحان متنافرة لا تناسق بينها، ممهدة لعودة "الفكرة الثابثة"، وقد اكتست في هذه المرة صورة إحدى الرقصات الشعبية، وكأنما يريد برليوز أن يرينا كيف جاءت حبيبته لتشارك السحرة احتفالهم بدفنه، فترقص رقصا شيطانيا، سرعان ما ينسيه لحنٌ جنائزي قادم من بعيد لا يلبث أن يتحول بدوره إلى رقصة يقوم بأدائها السحرة والشياطين، لتنتهي السمفونية على أيقاع خليط من الأنغام الصاخبة التي تقشعر لها الأبدان.
ــــــــــــــــــــــــــ

[1] ) مسرحية تستمد اسمها من إحدى مدن الباسك بجنوب فرنسا. وهي دراما كتبها الشاعر الفرنسي الرومانسي فيكتور هوجَو.

[2]) "فاوست" مسرحية تراجيدية ألفها الكاتب المسرحي الألماني يوهان فولفغانغ فون غوته. تقع في فصلين، نشر أولهما للمرة الأولى عام 1808. والغالب أن يكون هو الذي اطلع عليه برليوز، إذ لم ينشر الفصل الثاني إلا في سنة 1832، أي بعد تأليفه "السمفونية الخيالية بسنتين.

[3]) جيرار دي نرفال ‏ من أشهر أدباء فرنسا وشعرائها الرومانسيين وكاتب مقالات ومترجم، اسمه الحقيقي جيرار لابروني.

[4]) عبارة عن سيرة ذاتية كتبها توماس دي كوينسي حول إدمانه على الأفيون وتأثيره على حياته. كانت هذه الاعترافات أول عمل كبير نشره دي كوينسي.


(*) أنطوان مينيون Antoine Mignon. خريج المعهد العالي للموسيقى بباريس عازف على البيانو، وحامل للجائزة الأولى في الهارموني، وحاصل على دبلوم الدراسات المعمقة في البحث الموسيقي، وشهادة التبريز في تاريخ الفنون. وهو من المشتغلين بالكتابة في كثير من المجلات الموسيقية المحكمة مثل مجلة "كلاسيكا"، ومساعد في تحرير "كل شيء عن موزارت" - سلسلة بوكان – 2005.

Rate this item
(1 Vote)
Last modified on الأحد, 30 تموز/يوليو 2023 16:01
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل تعكس الموسيقى العربية المعاصرة تطلعات الشباب وقيمهم؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM