خطورة التعليم الموسيقي الافتراضي

د. وسام جبران (فلسطين)

منذ 50 عامًا تقريبًا وأنا أدرس الموسيقى. تنقلت بين عدد من الأساتذة والبُلدان والحضارات، وكنت أسافر أحيانًا آلاف الكيلومترات لحضور دورة متقدمة (ماستر كلاس - Master class) لأنهل من أحد الأساتذة المرموقين، وأتكلف الكثير من العناء والمال لأجل خوض تجربة تفاعلية جديدة والاستفادة من رأي فنان آخر بأعمالي الموسيقية.  هذا ما فعلته طوال حياتي، وهذا ما يفعله معظم الموسيقيين الجادّين.

بعد هذه المقدمة القصيرة، نتساءل، ما المُشكلة في التعليم عبر الإنترنت، وخصوصًا عبر الدروس المُسجّلة مُسبقًا؟

إن الإجابة البسيطة عن هذا السؤال تكمن في أهمية ما يلي: العنصر الإنساني، الخبرة الفرديّة غير المتكرّرة، وخاصيّة التفرّد في الفن.

يعتقد البعض أن دراسة الفن تشبه دراسة العلوم الطبيعية مثلًا، أو دراسة قواعد اللغة وما شابهها.  والحقيقة أن ثمة فارقا هاما وأساسيا بين هذه العلوم وبين دراسة الفن، وهو أن الفن لا يقتصر على البُعد التِّقني الموجود فيه، بل يكمن بدرجةٍ كبيرة في قُدرة الأستاذ على سبر أغوار الطالب، وتشخيص خصوصيّته التي تتجلّى في مواهبه كما في محدوديّاته، والتعامل الفرداني مع الطالب بوصفه إنسانًا مُفردًا، وقيمةً غير متكرّرة.

من هنا، فإن التعليم عبر الدروس المُسجّلة - كما أمور أخرى كثيرة في زمننا - تسخيفٌ للفن وتسليعٌ له، ينزع عنه قيمته بوصفه فعلًا إنسانيًّا، يصدر عن الذات المتفرّدة أو الجماعية للإنسان، ويُخاطب الإنسان، فردًا وجماعةً.

ثمة خطورة من نوع آخر في الدروس المُسجّلة المنشورة عبر الإنترنت، وهي، وإن كانت ناجحة أحيانًا وتعكس خبرة المعلمين، إلا أنها قد تتضمن أخطاء من الصعب خذفها أو تعديلها، عن جهلٍ بوقوعها، أو بحكم أنها باتت مُسجلة ومُثبّتة ومنتشرة في القنوات المختلفة.

تقتصر فائدة هذا النوع من الدروس في أنها قد تشكل قيمةً إضافيّة للدروس الوجاهيّة، طالما أن ذلك يحدث بالتوازي مع التعليم الوجاهيّ الشخصيّ، وإشراف الأستاذ ومتابعته. إن التعليم الوجاهي، هو كذلك قاصرٌ إذا لم يُستكمل بمكابدةٍ مستمرة من التثقيف والإحاطة والتدرّب.

أكتب عن هذه الظاهرة، ولو باختصار، لأنني بدأت حديثًا بالتعرض إلى طلبة يأتون إليّ مع خلفيّةٍ تعليمية من هذا النوع، وأرى بأم عيني الثغرات والأضرار التي يُحدثها هذا النوع من التعليم غير المُوجّه والمتشتّت على الطلبة المبتدئين، وإصلاح الأضرار يكون أحيانًا أكثر مشقّة من التعليم من نقطة الصفر.

يريد البعض مواكبة العصر، أو مجاراته. وهنا خطورة إضافيّة، حيث التّغافل عن المواكبة بمعناها وكنهها الفني والفكري، والانغلاق في المواكبة الاستهلاكية التقنيّة التسويقية، دون التعمق في فهم العلاقة العمودية بين طبيعة التعليم الموسيقي، والفني عمومًا، وبين تداعيات التكنولوجيا الحديثة والمنطق العلمي أو التسويقي الذي يقف خلفها. 

من هنا، فإن الرغبة في اللحاق بالموضة وتطورات التكنولوجيا لا يكون بأيّ ثمن، وإن أردنا فعل ذلك بجديّة، فربما علينا أن نعلم الأجيال الجديدة علوم البرمجة الموسيقية ولغات الذكاء الاصطناعي، والعمل على صناعة "روبوتات" آلية موسيقية، على أنواعها ووظائفها، والسعي خلف "التطوّر" الذي يدأب على استبدال الإنسان بالآلة وتهميش دوره وكينونته لحساب خوارزميات معقدة.  هكذا، على الأقل لا نكون متطفلين على عصر الذكاء الاصطناعي الحديث، بعقول كلاسيكية.  إن الهجانة التي نشهدها الآن عبر محاولات سحب التعليم الموسيقي إلى ساحة الشاشات الإلكترونيّة وعالم التسويق السريع والمزدحم هو فعل تشويه، لا فعل مفاوضة.

إن كان هذا الخيار هو خيار العصر، فعلينا إذًا أن نسأل، إن كان لا يزال هناك متّسع وحاجة في هذا الفضاء الجديد، إلى أستاذٍ يعمل جادًا مع طالبه على سبر تأويلات جملةٍ موسيقيّة في إحدى سوناتات بتهوفن، أو شوبان، ومراقبة وتصحيح أصابعه، وصقل مشاعره، وتثقيف مهاراته في التعبير!؟ وهذا ينطبق على كل أنواع الموسيقى والفنون والثقافات.

Rate this item
(1 Vote)
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل تعكس الموسيقى العربية المعاصرة تطلعات الشباب وقيمهم؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM