عبد العزيز ابن عبد الجليل
تمهيد
كانت الموسيقى من بين أبرز وسائل الترفيه المفضلة لدى ملك فرنسا لويس الخامس عشر (1710 – 1774) الذي اختار لنفسه الإقامة في "مارلي" أحد أجنحة قصر فرساي. وذات يوم بلغته أصداء موسيقي إيطالي يدعى "فَيفَالدي"، هذا الفتى الذي شغل الناس، وأصبح على وشك أن يحمل في إيطاليا، ثم في كل البلاد الأوروبية، لقب " الكاهن ذي الشعر الأحمر"، والذي تصدرت أخباره الغريبة عناوين الصحف اليومية.
كانت باريس قد شهدت في يوم 27/2/1728 أحد أعماله الحديثة، إنها الكونتشرتوهات الأربعة التي كتبها لآلة الكمان وأسماها "الفصول". وفي مستهل الشهر الرابع من نفس السنة أعيد عرض الفصلين الأولين، ولقي أولهما بصفة خاصة قبولا منقطع النظير. إنه كونتشرتو "الربيع"؛ وانطلقت بالفعل عملية استنساخ المدونة التي ستغطي وشيكا القرن التاسع عشر بأكمله تحت توقيع موزعين موسيقيين هما ميشيل كورِّيت (Michel Corrette (1705 – 1782 ([2])، ونيكولاس دو شيدوفَيل (Nicolas de Chédeville 1705- 1782) ([3]).
أحس ملك فرنسا الشاب بالتوق لسماع هذا "الكونتشيرتو" الذي يتحدث عنه الجميع، فلم يتردد في الإعراب عن مشاهدته في عرض خاص؛ كان ذلك يوم الخامس عشر من شهر تشرين الثاني/نوفمبر 1730. وتتحقق رغبة الملك بالرغم من وجود أعضاء الأوركسترا في عطلة، وذلك بفضل التئام بعض رجال القصر الملكي ممن لهم معرفة بالموسيقى ودراية بالعزف حول السيد جان بول كَينيون Sr J.-P. Guignon، وهو العازف الماهر المنفرد "الصوليست" ذو المهارة في العزف على الكمان.
كان هذا الصنف من الموسيقى في أصالته استجابة لنوع من التيار العام الذي انتشر عبر أوروبا؛ ولربما كان تعبيرا عن ضجر الناس من بذخ القرن السابع عشر، فانطلقوا يكتشفون بذهول سحر الطبيعة، وينعمون بالملذات المتواضعة التي لا ريب أنها لو اطلع عليها أسلافهم لاستنكرها جلهم. وانساقت الموسيقى بطبيعة الحال مع هذا الحماس، بيد أنه على الرغم من أنه يمكن للمرء بالفعل أن يستشهد بأمثلة من صنف "موسيقى البرامج" الريفية من قبيل "طيور جين كوين" Les Oiseaux de Janequin، أو "كوكو" Coucou لـ "سينايلي" Sénaillé، أو "أجراس" les Cloches لـ "لابيكَ"Le Bègue، أو "ديسكريبتيو أفَيوم" Destcriptio avium لـ "بيبير" Biber ، فلا أحد من الموسيقيين استطاع أن يبلغ ما بلغه فَيفَالدي من نجاح في نقل أصوات الطبيعة إلى عمل موسيقي من المستوى الرفيع.
لقد سبق للموسيقي الفرنسي "لولي" أن قدم يوم 24 كانون الأول/ديسمبر 1698 بمسرح "كيرينال" Quirinal في روما عملا أطلق عليه اسم "الفصول"، وهو عبارة عن "باليه - أوبرا"، ]لكن "فصول "فيفَالدي" الأربعة كان لها بعد آخر تجلى من خلال دقة التصميم المقترح لها، وكثافة الحيوية التي تميّزها[ (إضافة من المترجم).
ومن الأرجح أن "فصول" فَيفَالدي أخذت طريقها إلى النشر عام 1725 في أمستردام على يد "روجير لوسين" Roger Le Cène الناشر المفضل لديه، غير أنها - فيما يبدو – طبعت على شكل نسخ منفصلة، لا على شكل مدونة موسيقية، شأنها في ذلك كشأن كونتشرتو "تامبيستا دي ماري" Tempesta di Mare.
وتظهر نسخة الكمان الأول بوضوح كيف يتشكل كل كونتشيرتو من "سونيتة" "توضيحية" مجهولة المصدر تصف بسذاجة خصائص الفصل المذكور على نحو تَمَّ فيه بالتدريج إعادة إنتاج سطورها في سياق العمل الموسيقي.
تأثر فيفالدي بالموسيقى الدرامية - لدرجة أنه ألف في سياقها خمسين أوبرا- كما تأثر بأسلوب "كوريللي" Corelli ([4]) و"توريللي" ([5]) Giuseppé Torelli في كتابة الكونتشيرتو ، غير أن أعماله في هذا المجال تتسم بالحرية وبلاغة التعبير، بل إنها ستذهب بعيدا إلى درجة التأثير في البنية الفنية لمؤلفات باخ الذي لا يغيب عنا أنه كان كثير الإعجاب بـ "الكاهن الأحمر". وعلى غرار كونتشرتوهات فَيفَالدي الأخرى، فإن "الفصول" تتسم بأسلوب متحرر للغاية؛ ذلك أن دور عازف الكمان الأول فيه، يشبه دور المغنية في الأوبرا من حيث وفرة التيمات ]أي الأفكار الرئيسية[، والمقاطع الصعبة، ودفء النبرات المعبرة، وهذه كلها عناصر تساهم في نجاح العرض وتلتحم من أجل أن تبلور دور العازف بما يفضي في النهاية إلى ابتكار أسلوب جديد في العزف يقضي بإسناد الحركات البطيئة في مؤلفات الكونشيرتي كَروسي لذلك العهد إلى الرباعية الآلية.
هنا، ينطلق الصوليست في الحوار، وخاصة مع عازفي آلات الكمان والفَيولا عبر أداء "متواصل" تضطلع به "آلات لوحة المفاتيح"، تزاوجها - سيرا على العادة – آلة الفَيولونتشيللو، في حين تتدخل آلة الكونترباس في الأوكتاف الأسفل.
كانت المؤلفات الموضوعة لآلة الكمان في تلك الفترة تعتبر كلاسيكية ووسطا بين كوريللي Corelli، وتارتيني Tartini، وفق النهج الذي يريده يومئذ عباقرة المؤلفين الإيطاليين ممن كانت تقنيتهم بالفعل متقدمة. ولعل من المناسب هنا التذكير بأن هذا الصنف من المؤلفات الموسيقية كان موجها لمعاهد موسيقية غريبة أقيمت بالبندقية خصيصا من أجل تعليم الموسيقى للفتيات اليتيمات. ومن هنا يتبين كيف وجد فَيفَالدي المناسبة سانحة لإنتاج عدد جم من الكونتشيرتوهات فاق عددها الأربعمائة والأربعين، لا سيما وقد توفر على أوركسترا مدربة تدريبا عاليا وإن تكن مُشَكَّلة حصريا من الإناث.
لقد كانت شهرة الأوركسترات الوترية بالبندقية عظيمة، وذلك لما اتسمت به من مرونة وما بلغته من تألق، الأمر الذي حفز فَيفَالدي على أن يكتب لهؤلاء المهرة من العازفين مقطوعات للعزف المنفرد، مشحونة بالصعوبات التقنية من قبيل العزف على الأوتار المزدوجة، والزغاريد المتلاحقة، والتراكيب المتنافرة، والقفزات على الأوتار، وغير ذلك من أساليب العزف المعقدة والتي تأتي في كثير من الحالات لتسلط الضوء على براعة العازف، وبالتالي لتفتح الباب على وجوه البراعة التقنية التي يتطلبها أداء أعمال "تارتيني".
ونخلص – بعد هذا التمهيد – إلى الكونتشرتوهات الأربعة:
الكونتشيرتو الأول "الربيع": في ثلاث حركات.
الحركة الأولى: سريعة (ألِّيكَرو). تتصدرها تيمة مرحة في غاية القوة والإيقاع، على مقام مي الكبير؛ وهي عبارة عن جملة موسيقية تتكون من جزأين (B-A) يتكرر أداء كل منهما مرتين من طرف عازف الكمان المنفرد يؤازره عازفو "الكمان الأول"، مع زخرفة الجزء الثاني (B) بـطباق لحني (كونتربوان) يضفي عليه طابعا ريفيا:
تتزامن نهاية الجملة الموسيقية مع عرض تيمة تحمل عنوان "شدوُ العصافير"، حيث يجاري "ثلاثي" آلات الكمان زغردات العازف المنفرد وتعاقبَ نغمات التيمة السريعة. ويأتي هذا الفاصل بمثابة "مقطع" أول يقاطعه الجزء (B) الذي تعيد الأوركسترا عزفه على نحو "لازمة" قصيرة. ثم يتلوه المقطع الثاني ليدخل بنا في عالم من "الينابيع" ترتعش موجاتها الخفيفة عند مداعبتها لنسيم "الهمسات الحلوة". ومرة أخرى تطالعنا الجملة القصيرة السابقة، وقد اعترضتها النغمة "المسيطرة" (سي) لتنتقل بنا إلى المقطع الثالث. وخلال هذه الفترة الوجيزة يتغير الجو بشكل مفاجئ، فتغشاه عاصفة فصل الربيع العاتية، وينفجر رعدها عبر سلسلة من "ذوات الثلاثة أسنان" (التريبل كروش) تعترضها جرات عجلى على آلات الكمان، تواكبها ومضات يفجرها الصوليست عبر أربيجات تتوالى فيها الثلاثيات، وترافقها في نفس الوقت ترعيدات الرباعي من خلال هزيم رعدي ملون (كروماتيك) يفضي بنا إلى سلم "الرولاتيف الصغير" (دو دييز)، حيث تبدو اللازمة (B) من جديد. وتأتي السكينة إثر ذلك سريعة كسرعة احتدام العاصفة، فتستطيب الآذان عذوبة شدو العصافير معلنة عن نهاية الجزء الأول من التيمة الأولى (A)، ويعود الصوليست ليذكرنا من خلال خمس مازورات بهمسات "الينابيع" معلنا بدوره عن النهاية الناضرة للجزء الثاني من التيمة (B).
الحركة الثانية: بطيئة (لاركَو). يرجع نصيب كبير من النجاح الذي حققه كونتشيرتو "الربيع" إلى هذه الحركة. وإذا كان صحيحا أن مضمونها منحصر في أربع آلات موسيقية (كمان صوليست، وآخران، وآلطو)، فقد شكل ذلك حدثا جديدا لا بد معه من الاعتراف بأن هذه الحركة تحفة رائعة.
تتمحور تيمة الحركة حول موضوع " نوم الراعي" الذي يبرز عبر جملة لحنية على درجة كبرى من البساطة، يؤديها الكمان المنفرد على سلم "دو دييز" الصغير، وِفْقَ شكل "الآربيج" الذي كان مألوفا في تِيمات هذه الفترة.
عنزة نائمة IL Capraro che dorme
بعد ستة عشر مقياسًا (مازورة) من العرض الكلاسيكي الذي يفضي إلى "المسيطرة"، تستعيد الجملة الموسيقية صورتها الأولى، ثم توجهها بشكل مختلف قليلا، وعند نهايتها تضاعف حقولها الأربعة الأخيرة (كصدى).
على أن الغاية تكمن فيما هو أبعد، إنها الحداثة التي تتجلى في المصاحبة الآلية، هذه المصاحبة التي تنطوي على أهمية كبرى في المشهد: فمن أجل جودة التعبير عن طمأنينة اللحظة ينطلق عازفا الكمان في نسج خطين لحنيين متوازيين على مسافة بعد "الثالثة"، يؤديان من خلاله بخفوت "بيانيسيمو" المقطع
وذلك بهدف محاكاة حفيف أوراق الشجر التي يرقد النائم تحتها. لكن أكثر الأشياء وضوحا في اللوحة، هي الجرأة غير المسبوقة للموضوع، فهي منتظمة وعنيدة لا يمكن أن يضاهيها إلا عناد نباح الكلب رفيق الإنسان المخلص الذي يحرس القطيع جنبا إلى جنب مع الراعي. هذا النباح موكول إلى آلة الفيولا ، ويؤدى بشكل "دائم القوة والتمزق" Sempre molto forte e stappato، وبهذا فنحن هنا أبعد ما نكون عن الموسيقى الحقة.
الحركة الثالثة: هي رقصة ريفية تقوم على ميزان 12/8، وسلم "مي" الصغير. وعلى إيقاعها الكلاسيكي يلهو الراعي في مرح مع الحواري. توزيعها الموسيقي خفيف؛ وفيما تتولى آلات الكمان الدور الأساس، يكتفي "الباص المتواصل" بالمد الصوتي لعدة مقاييس (مازورات)، يتلوه تدخل الكمان الأول لينسج بعض الزخارف التي لا يتغير انسجامها إلا من خلال عدد قليل من التحويلات الإيقاعية التي تظل محافظة على طبيعتها الريفية.
وتتلو ذلك عودة قصيرة إلى «السلم المنتسب" الصغير relatif mineur للتيمة الرئيسية تواكبها "وصلة" فاصلة ذات محاكاة طٍباقية خفيفة تفضي إلى النغمة المسيطرة (سي).
وتنتهي هذه الحركة على وقع "موزيت" مكتوبة للكمان المنفرد في مجموعة من الفقرات الموسيقية (Rosalies) يتكرر أداء كل واحدة منها مرتين على مقامين مختلفين تتلوها اللازمة، هذه اللازمة التي تعزف وفق صورتها الأصلية أولا، ثم على السلم الصغير عبر ثمانية عشر مقياسًا (مازورة)، لتعود في النهاية إلى صورتها الأولى على سلمها العادي.
[1] Geneviève de La Salle. Revue MUSICA, n° 28 juillet 1956. Imp. CHAIX Paris (Seine), pp. 30 – 33.
[2]) مؤلف موسيقي فرنسي، اشتغل عازفا على الأورغ، ثم معلما للموسيقى. نشر أولى أعماله عام 1727، وكان من أوائل الذين نشروا كونشرتوهات فيفَالدي. تحول إلى قيادة الأوركسترا في معارض باريس، وفي مسارح الترفيه، فألف كونشرتوهات هزلية في موضوعات شعبية، كانت تقدم كفواصل بين فصول المسرحيات. وقد ألف "الكونشرتو التركي" عام 1742 بمناسبة زيارة السفير التركي لباريس.
[3]) مؤلفً موسيقيً فرنسي وصانع موسيقى شغل منصب العزف على آلة الأوبوا بقصر الملك لويس الخامس عشر، وآلة الموزيت العادية بالأكاديمية الملكية للموسيقى. أضاف إلى أعماله الخاصة توزيع أعمال مؤلفين إيطاليين من بينهم أنطونيو فَيفَالدي.
[4]) أركانجيلو كوريلي: عازف كمان ومؤلف موسيقي إيطالي من مواليد 1713. ألف سوناتات كثيرة للكنيسة، وأخرى لموسيقى الحجرة، إضافة إلى كثير من الكونشرتوهات. وتوفي عام 1653
[5]) جوزيبي توريلي: عازف كمان ومؤلف موسيقي إيطالي من مواليد 1656، ساهم بقوة في إثراء فن الكونتشيرتو غروسو. توفي عام 1709.
مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.
https://www.arabmusicacademy.orgتشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
تشرين1 01, 2023
Total Votes: | |
First Vote: | |
Last Vote: |
تشرين1 01, 2023 Rate: 5.00
تشرين1 01, 2023 Rate: 5.00
تشرين1 01, 2023 Rate: 5.00
أيار 02, 2021 Rate: 5.00
أيار 27, 2021 Rate: 5.00
تموز 29, 2021 Rate: 5.00
أيار 07, 2013 Rate: 1.00
أيار 02, 2015 Rate: 1.50
حزيران 30, 2012 Rate: 5.00