أحمد عبدالله دعوب (ليبيا)

كان لعدد من بيوت الفنادق المنتشرة بمدينة طرابلس القديمة سواء في منطقة (الفنيدقة) بالقرب من جامع الناقة كفندق سيالة وفندق العدلوني وفندق الغدامسية أو في محيط سوق الترك وسوق المشير كفندق الهنشيري وفندق الزهر وفندق مادي حسان وفندق الطوبجية وفندق ميزران وغيرها من الفنادق منذ مطلع القرن الماضي وحتى مطلع الستينيات شَبَهٌ بالمنتديات الثقافية والفنية. وكانت بعض غرف هذه الفنادق يستأجرها الوافدون إلى طرابلس من المدن والقرى إما للعمل أو للدراسة، وبعضها الأخر يستأجره هواة للفن وللثقافة يتسامرون ليلا فيقضون ليالي ممتعة في رحاب الموسيقى والغناء، بالإضافة لعدد من دكاكين النول (الحياكة) الموجودة في حومات المدينة القديمة في طريق الحلقة والأربع عرصات وسوق الحرير والفنديقة وغيرها، والتي تمثل هي الأخرى شكلا من أشكال المنتديات الفنية يرتادها هواة ومحبو الموسيقى والغناء.

فندق الزهر بطرابلس 

عازف القانون الفنان العارف الجمل في أحد البيوت 

 فقد كان في هذه الفضاءات نشاط واضح في تفعيل الحركة الفنية، أكان من خلال نوادر فن المالوف من وصلات إيقاع المربع والعلاجي، أم من خلال إيقاع العتبي من الأغاني الطرابلسية والمرزقاوية او ما يعرف بالغناء الفزاني نسبة إلى إقليم فزان بالجنوب الليبي، أم أيضا من خلال الموشح الشرقي والدور المصري والطقطوقات والأغاني الشرقية، بالإضافة للإنتاج الفني المحلي لهؤلاء الفنانين، واكتشاف المواهب الفنية الجديدة.  وتجد الملحن والمطرب والزجال والأديب وغيرهم من شرائح المجتمع المختلفة، جمعهم جميعا حب الفن والموسيقى والغناء في هذه الدكاكين وتلك الفنادق حيث لمعت مواهب كثيرة عبر أجيال مختلفة وحملت مشعل الفن والإبداع  كالفنان محمد عبية والأمين حسن بي ومختار داقرة وخليل التارزي والشيخ مختار شاكر المرابط ومحمد سليم وبشير فحيمة والعارف الجمل وغيرهم.

سوق الحرير

وقد توافد على هذه البيوت والدكاكين جل الفنانين الزائرين لمدينة طرابلس مثل الفنان علي الرياحي والفنان يوسف التميمي والدكتور صالح المهدي رحمهم الله والذين كانت لهم صلات وثيقة في مدينة طرابلس، فمن خلال هذه الأماكن عرفوا عن قرب الفن الطرابلسي خصوصا والليبي عمومأ.

سهرية فن في أحد البيوت، الفنان عبد اللطيف حويل، والفنان محمد الجزيري

 يقول الفنان عبد اللطيف حويل كما جاء في كتاب عبد اللطيف حويل عميد الطرب للناقد الأستاذ أحمد عزيز: تعرفت على الفنان حسن عريبي في أحد البيوت بفندق العدلوني وكنت يومها في زيارة لصديق لي من أصحاب ذلك البيت هو يوسف امبارك؛ وجدت وقتها حسن عريبي شابًا صغيرًا، يرتدي جردًا خفيفًا، وجالسًا على مصطبة خشبية في عمق البيت وهو يعزف على آلة العود، وعزفه يدل على انه لا زال يشق طريقه في مجال العزف والفن.

سهرية فن في أحد البيوت، الفنان حسن عريبي بالزي التقليدي الليبي

سألت يوسف عنه فأخبرني بأنه موهوب جديد جاء لهذا البيت شأنه شأن محبي وهواة الفن؛ تعرفت عليه وأحسست بحبه الكبير للفن، وقد كنت وقتها مطربا، وعندما علم من يوسف أنني أتواجد بأحد بيوت فندق سيالة القريب جدا جاءني وأصبح يتردد علينا.

ويقول حويل: كنا وقتها نحيي حفلات لصالح الثورة الجزائرية؛ وفي أحد الأيام اسمعني أغنية من ألحانه عنوانها "انتم المثل" تتحدث عن الثورة الجزائرية؛ والأغنية من النوع الخفيف الممزوج بالجو الشعبي؛ أعجبني العمل ووجدتها فرصة لتشجيعه ليضع قدمه في بداية سلم عالم الفن.  قلت له: سأغني هذا العمل في الحفل القادم ضمن سلسلة الحفلات الغنائية الداعمة للثورة الجزائرية والمساندة للشعب الجزائري، وطلبت إليه ان يحضر في اليوم التالي إلى مقر الإذاعة الليبية بشارع الزاوية كي أعرفه بالفنان كاظم نديم بصفته رئيس قسم الموسيقى بالإذاعة الليبية؛ وبالفعل جاء إلى الإذاعة وأدخلته مكتب الفنان كاظم نديم.

الفنان كاظم نديم بن موسى

سألني كاظم بطريقة هامسة: من هذا؟ قلت موهوب جديد لديه محاولات في التلحين وسأغني له لحنأ في الحفل القادم الذي سنحييه نصرة للثورة في الجزائر. احسست باعتراض الفنان كاظم نديم، وقال لي مقاطعًا: لا تستعجل فلا بد من اختباره، والعمل على صقل موهبته، قبل أن تغني له. 

غادرنا أنا وحسن عريبي الإذاعة، وكل مشى في طريقه. وفي موعد الحفل الذي اقيم في مسرح سينما الحمراء. لم ادخل الكواليس، بل جلست مع الجمهور في الصالة، واجلست بجانبي حسن عريبي، وكان جلوسنا في منتصف الصف الثالث.  وفي منتصف الصف الاول، جلس كل من الشيخ محمود صبحي وكان وقتها رئيسا للجنة المساندة والداعمة للشعب الجزائري والأستاذ فؤاد الكعبازي وكان وقتها يشغل منصب وزير الأنباء والإرشاد وكان يجلس بالقرب مني شقيق المخرج الأمين ناصف. فتحت الستارة وظهر على الركح الفنان كاظم نديم ومن ورائه الفرقة الموسيقية.  ألقى كلمة قصيرة حيا فيها الجمهور وحيا نضال الشعب الجزائري. ثم غنى نشيدأ من أناشيده المعروفة، وبعد عدد من الفقرات أضيئت الصالة فالتفت مصادفة الأستاذ فؤاد الكعبازي للخلف فوجدني جالسأ ضمن جمهور الصالة. استغرب ذلك واستدعاني بإشارة من يده. ذهبت إليه احتراما، فأنا أعرفه حق المعرفة بمثل ما يعرفني. وهو شخصية غنية عن التعريف إلى جانب كونه مسؤولا.  فهو فنان وباحث وأديب؛ قال لي مباشرة: مكانك يا عبد اللطيف على المسرح وليس في الصالة، قلت له: كنت سأغني عملأ لموهبة جديدة عن الثورة الجزائرية ولكن الفنان كاظم نديم كان له رأي اخر. لذلك جلست في الصالة كمتابع للحفل.  ويبدو ان شقيقي المخرج الأمين ناصف سمعا كلامي، فانطلقا يهتفان بأعلى صوتهما: حويل.. حويل. وكذلك الجمهور فلم اجد بدا من الصعود إلى ركح المسرح ماسكا بيد الموهوب حسن عريبي. قوبلنا بموجة من التصفيق. الفرقة لا تعرف العمل ولم تسمعه من قبل.  وأُحضر كرسي للموهوب حسن عريبي، وجلس ومعه عوده، فعزف وغنيت العمل وتجاوب معنا جمهور الصالة، وصفقوا لنا.

المفارقة العجيبة أن رئيس قسم الموسيقى الفنان كاظم نديم منعني من تسجيل أي عمل غنائي جديد ولمدة شهر عقابأ لي على عدم الامتثال لأوامره.  المهم في الأمر أن الموهوب حسن عريبي تحول إلى ملحن قدير، احتل إسمه مكانا مرموقا ضمن قائمة أشهر وأبرز الملحنين الليبيين.  وقد قدم للأغنية الليبية أعمالًا رائعة لا زال يتردد صداها حتى يومنا هذا.  واختتم الفنان عبد اللطيف حويل روايته بقوله: حدسي قد صدق وأن مغامرتي قد أتت أكلها.

هذه هي بيوت الفنادق القديمة ودكاكين مدينة طرابلس ودورها الهام والفعال في اكتشاف المواهب وإحياء تراث وفنون مدينة طرابلس العريقة، فقد كانت الفضاء الرحب لعشاق الفن والغناء في مجتمع له موقفه الخاص من الغناء.