فصول أنطونيو لوتشيو فَيفَالدي (2) - بتصرف[1]

عبد العزيز ابن عبد الجليل

الكونتشيرتو الثاني: فصل الصيف    

تقوم الكتابة الموسيقية لهذا الفصل على سلم "صول" الصغير؛ وفيه يصف فَيفَالدي - في قالب "الروندو" الدائري - جوا من القيظ الخانق ساد في يوم شديد الحر، متوسلا بفقرة لحنية تستهل حقولَها المتتاليةَ علامةُ الصمت ]"ذات السن" التي توازي تنهيدة[ (soupir)، وهي تشكل بدورها لازمة للروندو.       

03a10       

وتتجاوب مع هذه اللازمة بعض السلالم الصغرى في اتجاه النزول إلى الغلظ، كما لو أنها ترمز لإطلاق العنان الذي تثيره موجة الحر.  وفجأة، ترتفع أنشودة الوقواق، يحاكيها بروعة فائقة الكمان المنفرد في رفقة الباص المتصل، تعقبها متواليات لحنية تلتحم عندها الأوكسترا بأكملها في الحقول الأخيرة، ليعود الكمان المنفرد ثانية إلى محاكاة هديل اليمامة، وإن يكن ذلك في تعبير أقل غبطة وسعادة.  ويُنهي الكمانُ سياحتَه بمحاكاة طائر "الحسون" قبل أن يفسح المجال لجوقة النسيم، ويعقبه بشكل فجائي صوت الراعي من خلال لحن كروماتي حزين يعيدنا إلى سلم صول الصغير.

  03b10

 

تتدخل الأوكسترا بأكملها لتنهي وصف هذا المشهد الصيفي من خلال عشرين حقلا يجري عزفها كالعاصفة الهوجاء.

ويشكل "الأداجيو" مشهدا مسرحيا نوعيا، يبدو فيه الراعي في غفوة النوم تحت تأثير لحن موسيقي هادئ هذه صورته:

03c10

 

 وبينما هو كذلك، أخذت هوام الذباب والبعوض تحوم حوله فتقطع قيلولته. ولتشخيص هذا المشهد أوكل المؤلف إلى آلات الكمان "جرات" شديدة السرعة والخفوت (بيانيسيمو) على المقطع الإيقاعي التالي:

                                     03d10

بما يحكي هجوما يذهل النائم الغاضب، مع تحويل لحن الجملة إلى الـ "رولاتيف" الكبير (سي بيمول).           وينتهي "الأداجيو" بخاتمة هي عبارة عن حركة "سريعة جدا" (بريستو) على الميزان 3/4، مدوية كالرعد، تستعرض فيها كل آلة على حدة المازورات الاثنتي عشرة الواحدة بعد الأخرى بكل ما تحمله كل واحدة من "دوبل كروش"، حيث "المقامات" تتوالى سريعة بين نزول وصعود، وكأنها ومضات البرق تخترق السماء.

هنا ينبري الكمان المنفرد مضاعفا (double) عازفي الكمان الأول. حتى إذا أدرك "تحوير" اللحن إلى "المسيطرة" بعد تجاوز "المقام" الصاعد الأخير، انفصل عن العازفين منفردا بأداء ست مازورات عبر "وثبات القوس"، sauts de cordes في حركة نزولٍ مدوخة تفضي عبر الوترين الثالث والرابع إلى مزيج مشار إليه خصيصا في المدونة بالكلمات الإيطالية التالية "تحت التينور والباص".  وفي الأخير تستأنف الأوركسترا أداء "المؤثرات الرعدية" في شكل لازمة، تتلوها مرة أخرى الشطحات البهلوانية للكمان المنفرد، لتعلن عن النهاية السعيدة لـ "خاتمة" الكونتشيرتو. 

الكونتشيرتو الثالث: الخريف

يبدأ هذا الكونتشيرتو بمشهد خمري احتفاء بموسم قطاف العنب، وذلك عبر مقطع لحني يشكل حركتَه الأولى في مقام "فا" الكبير، ترقص المجموعة وتغني على وقع وزنه الرباعي في حركة "أليكَرو" السريع.

Allegro

03e10

يتدخل الكمان المنفرد، فيعيد بدوره المقطع اللحني مستبدلا ذوات السن بذوات السنين، تضفي عليه الطابع الريفي. وفجأة، وتحت تأثير الخمرة، ينطلق سكير في التفوه ببعض العبارات الرعناء، فيتلوه الصوليست بمقاطع غير منتظمة ترسم بمكر ترنّحاته، ثم تنبري المجموعة الصوتية، تواكبها آلات الأوركسترا وهي تتبادل – الواحدة بعد الأخرى - ترجيع مقامات صاعدة ونازلة في فواصل ذات قيم زمانية لا تجانس بينها، راسمة اضطراب المشهد من خلال درجات مقامية (tonalité) شديدة التباعد (صول الصغير). ويستمر المشهد على هذه الحال إلى أن يسقط السكير على الأرض فاقدا وعيه بعد تدخل عنيف لـ"التوتي" الذي يستعيد لحن الكونتشيرتو مثقلا بالسنكوبات.  هنا، ومن خلال بعض قفزات الكمان المنفرد بأبعاد سداسية صاعدة، وأخرى سباعية هابطة، ينطلق لحن الحركة الثانية للكونتشيرتو في محاكاة شخير النائم، متوسلا لرسم نومه العميق بانتقال الأوركسترا من "تدرج رنين الصوت" decrescendo، إلى الأداء الخافت piano، فالأكثر خفوتا più، فمنتهاه pp، وتلك ابتكارات تُحسب لفَيفَالدي الذي دونها بنفسه.

   Lubriaco che dorme 

03f10

يتشكل الأداجيو "الشديد البطء molto" من لحن واسع في منتهى الروعة dolcissimo sonno يستدعي نشوة عارمة. إنه لحن يكتفي فيه عازفو الكمان الثاني بمجاراة الكمان المنفرد على بعد الثالثة، فيما يضاعفه حاملو الكمان الأول.  

وفي نفس سياق هذه الحركة تتناقص شدة رنين الصوت لتفضي أيضا إلى الانتقال من "البيانو" إلى البيانيسيمو"، بينما ينطلق الكلافَسان – كما هي العادة يومئذ - في ارتجال مجموعة من الآربيجات وفق "الباص المرقوم[2] بهدف تأثيث الإيقاع الثلاثي 3/4، ترافقها الوتريات وقد غضت خافضات الصوت من حدتها. 

تجد الحركة الثالثة ذريعتها فيما كانت عليه حركة الصيد من القوة في موسم الخريف خلال القرن الثامن عشر. ويقوم لحنها على ثيمتين رئيسيتين (B-A) تستحضران بوضوح أصوات آلة الكورنو التي تفتح السير بموسيقى الصيد (كاتشا) عبر ثيمة موقعة بتباهٍ (A) على الميزان 3/8 في مقام فا الكبير، تتلوها ثيمة (B) بعزف الصوليست على وترين، سرعان ما يوقفها تدخل الأوركسترا بالعودة إلى الثيمة (A) في ثماني مازورات.   

03g10

 

وما هي إلا لحظات حتى ينطلق الصوليست في أداء "وثبات على الأوتار"، وآربيجات، ومقاطع من "الدوبل كروش"، يستفز بها الطيور إلى الفرار وهي تلهث كيما يصطادها، بينما يرسم "الرباعي"quatuor" بأشكال ثلاثية من ذوات السن triples croches عَدْوَ السرب وصدى وقع حوافره على الأرض. وعندها، تدوي الأبواق مستحثة الكلابَ على ملاحقة القطيع، وتنطلق السهام صوب الضحية المنهكة، فتنهار قواها وتستسلم للموت. حينها تصدح آلات الكورنو فرحا بانتصار الصيادين.

الكونتشيرتو الرابع: فصل الشتاء

تبدو حرية الشكل في هذا الفصل أكثر وضوحا، لدرجة لم يعد معها ممكنا أن تنسب الحركة الأولى إلى الروندو. ويأتي وصف فصل الشتاء ليذكرنا - خطوة خطوة - بالسونيتة الافتتاحية، وذلك في غياب الالتزام بأي بنية موسيقية على الإطلاق، بينما يتوالى – دون توازن مسبق أو تصميم تونالي حقيقي – إطلاقُ العنان لرياح الشتاء الرهيبة، ووقعُ ضربات الأقدام المرصودة لمقاومة البرد، هذه الضربات التي تكتسي بشكل ممتع إيقاع ولون رقصة "سٍجويديللا" الإسبانية الشعبية (Séguedille) التي تعزفها القيثارة، وتحكي ارتعاشات الأضراس واصطكاكها بعزف نغمتين في آن واحد على طبقة صوتية حادة.

إنها متعة نرجسية تلك التي يثيرها في المرء الاستماع في جو الهدوء ودفء الموقد وتساقط المطر في الخارج للمقطع الموسيقي البطيء Largo في مي بيمول، علما بأن هذا المقامية لا صلة لها بالحركة الأولى القائمة على مقام فا الصغير.  إنه مقطع لحني شيق، لا ريب أنه أفضل ما حواه كونتشيرتو "الشتاء" لبساطته التعبيرية.

Largo   

03h10

لا تضيف النهاية إلى الكونتشيرتو أي شيء ذي بال، بل بالعكس، فإن تفاهة وتقليدية رسومات الثيمات المرصودة لترجمة السير المتردد، وسقوط أحد المشاة على الجليد وقيامه، وغياب الانتقالات المقامية الإيحائية، والإفراط في تكرار الجمل الموسيقية (Rosalies)، والمبالغة في الأدوار المخصصة للصوليست، كل ذلك جعل من هذه النهاية أضعف جزء في "فصول" فَيفَالدي. 

الخاتمة:

بعيدا عن الرغبة في أي مقارنة بين فَيفَالدي وباخ، وهو أمر مجحف لكليهما، نلاحظ بغرابة أنه إذا كانت سمعة باخ تنحصر في عدد قليل من الأوفياء لذكراه ولما كان له من حظوة عابرة لدى ملك بروسيا فريديريك الثاني، فإنها لم تتوقف منذ قرن عن الازدياد دون أن يحدث ما يُتَوَقع معه خفوتُها ذات يوم، على حين تعرضت سمعة فَيفَالدي وهو ما زال حيا يرزق لخسوف غريب بسبب ما عراه في سنة 1741 من بؤس وانزواء أفضيا به إلى أن ينهي أيامه في فَيينا بعيدا عن مسقط رأسه وعن المجد الذي كان يتوجه في عهد غير بعيد.

لقد أذهل هذا الرجل الجهنمي معاصريه - كما أذهلنا نحن أيضا - بخصوبة إنتاجه المذهلة. فقد كتب عنه شارل لوبروس Charles de Brosses[3] – وهو من يتعين الاستشهاد بكلامه كلما تعلق الأمر بإيطاليا في ثلاثينيات وأربعينيات القرن الثامن عشر - في رسائله قائلا: "إنه يتمتع بقدرة خارقة على التأليف، سمعتُه يوما وهو منكب في جهد كبير عل كتابة كونتشيرتو بكل مكوناته في نشاط يفوق بكثير قدرات الناسخ على نسخه".  وأقوى ما في الأمر أن كل ذلك كان صحيحا! فقد كان قادرا على أن يجد في زحمة وظائفه المتعددة – كقائد للحفل الموسيقي في "لايييتا la Pietà[4]، ومتعهد ورئيس لفرقة مسرحية – ما يكفي من الوقت ليؤلف 440 كونتشيرتو، و23 سمفونية، و73 سوناتة، و49 أوبرا الخ...

وبالطبع فقد كان حتميا أن ينال هذا التسرع من مستوى جودة أعماله، فلا أحد، وحتى فَيفَالدي نفسه، بقادر على أن يمتلك نظير عبقرية باخ في الإبداع. ومع كل ذلك، فعلى الرغم من هذا الإسراف المضطرب، فإن عهدنا الحديث – بعد إغفال طويل ومجحف في حق أعمال فَيفَالدي – لم يعد يجهل قدراته المتدفقة في الإبداع، ونضارة أعماله وأصالتها.


[1] De La Salle, Geneviève. (1956). Revue MUSICA n° 28. Imp. CHAIX (seine), pp 33 – 35.

[2] يقابل هذا المصطلح باللغة الفرنسية Basse chiffrée، وهو عبارة عن أرقام تدون أسفل جزء الباص أو أعلاه، وظيفتها تحديد تنغيم النغمات. وهي طريقة تستعمل غالبا في موسيقى الباروك وفي الموسيقى الكلاسيكية القديمة للآلات المصاحبة مثل الكمان والكلافَسان.

[3] lettres familières écrites d'Italie en 1739 et 1740. T. 1 / par Charles de Brosses.

[4] قصة أنطونيو فَيفَالدي والموسيقيين الشباب في البندقية.

Rate this item
(1 Vote)
مجلة الموسيقى العربية

مجلة موسيقية تصدرعن المجمع العربي للموسيقى الذي هو هيئة متخصصة من هيئات جامعة الدول العربية وجهاز ملحق بالأمانة العامة لجامعة الدول العربية، يعنى بشؤون الموسيقى على مستوى العالم العربي، ويختص تحديداً، وكما جاء في النظام الأساسي للمجمع، بالعمل على تطوير التعليم الموسيقي في العالم العربي وتعميمه ونشر الثقافة الموسيقية، وجمع التراث الموسيقي العربي والحفاظ عليه، والعناية بالإنتاج الموسيقي الآلي والغنائي العربي والنهوض به.

https://www.arabmusicacademy.org

link

 

ama

اشترك في قائمتنا البريدية

Please enable the javascript to submit this form

هل للإيقاعات الموسيقية تأثير نفسي وبيولوجي وجسدي علينا؟
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
  • Votes: (0%)
Total Votes:
First Vote:
Last Vote:
Copyright © 2012 - ArabMusicMagazine.com, All Rights Reserved, Designed and Powered by ENANA.COM